قصة أصحاب السفينة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فعن النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- عن النبي قال: مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذِ مَن فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا
هذا الحديث يحمل معنى كبيرًا، فهو يصور حال المجتمع الذي تقع فيه المعصية والمخالفة، وذلك أن هذا المجتمع يركب جميعاً سفينة واحدة، فإذا عمد إليها سفيه وخرقها فإنه لا يغرق نفسه فحسب، وإنما يغرق من في السفينة،
فالنبي يقول: مثل القائم في حدود الله أي: المدافع عن حدود الله، والذابّ عنها، الذي يحفظها، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويغار على دين الله
، والواقع فيها وهو الذي ينتهك حدود الله ، ويفعل ما حرمه عليه، ويجترئ على المخالفة بأي حجة كان فعله ذلك،
كمثل قوم استهموا على سفينة، النبي يضرب الأمثال في أمور محسوسة تقرب المعنى بصورة كأنك تشاهدها، وهذا من البلاغة، والله يقول: وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43 ]، فذكر النبي صفة هؤلاء، والمثل الذي يصدق عليهم ويوافق حالهم.
استهموا على سفينة، والاستهام يعنى: الاقتراع، وذلك في حال تساوي الحقوق، إذا تساوت فإنه تجرى بين الناس القرعة، فهؤلاء الناس أرادوا أن يركبوا سفينة، وهذه السفينة مكونة من طابقين، فمن الأوْلى بسطحها؟ ومن الأولى بالغرف التي في أسفلها، والحقوق متساوية، وليس هناك إلا التنازع أو الاقتراع؟، فأجروا بينهم قرعة فخرجت سهامهم، فريق في الأعلى، والآخر في الأسفل، وصار حق هؤلاء أعلى السفينة، وحق هؤلاء أسفل السفينة.
يقول: فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، أي: إذا أرادوا أن يأخذوا من ماء البحر يحتاجون إلى الصعود إلى أعلى السفينة، فقالوا: نحن أشغلنا هؤلاء الناس وآذيناهم وضيقنا عليهم بصعودنا المتكرر إليهم، فما هو الحل؟ فقالوا:
لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً، أي: أراد الفريق الذين أسفل السفينة أن يحدثوا خرقًا في نصيبهم، ويستقوا بالدلو من ماء البحر، فهل يتركونهم ويقولون لهم: هذه حرية شخصية، وهذا مكانكم، ولا أحد يتعرض لكم؟، فإن تركوهم غرق الجميع، ودخل عليهم الماء، وإن أخذوا على أيديهم ومنعوهم نجوا جميعاً.
وهكذا المقارف لحدود الله ، العاصي الذي يظهر معصيته، فإن المعصية إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها، إذا أغلق عليه بابه فهذا لا يضر إلا نفسه، يعبّ من المعاصي ما شاء، والله هو الذي سيحاسبه عليها، ولا يجوز لأحد أن يتجسس على الناس، وأن يتتبع عوراتهم،
فإن من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته حتى يفضحه في جوف بيته لكن إذا أظهر الإنسان المنكر أمام الناس، وكاشرهم به وأعلنه، فماذا يفعل الناس معه؟ هل يتركونه بحجة أنها حرية فيغرق المجتمع جميعاً، والمعصية إذا ظهرت ضرت من عملها ومن لم يعملها، تضرهم في آخرتهم، وتضرهم في دنياهم، قد تنزل عقوبة عامة، فالذين مُسخوا قردة وخنازير من بني إسرائيل إنما مسخوا بسبب المنكر والمعصية التي ذكرها الله ، والنبي كما في حديث زينب بنت أبي سلمة لما قالت: أنهلك وفينا الصالحون؟، قال
: نعم، إذا كثر الخبث، أي: إذا كثر الفساد والمنكر، فإن ذلك يؤذن بهلاك المجتمع، فلابد من سنّة المدافعة، قال تعالى: وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ [البقرة:251]، وقوله: لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا [الحج:40].
فهؤلاء الذين يفعلون المعاصي في الوقت نفسه هم يتسببون في نكبة المجتمع، قال تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ [الأعراف:69]، وقال الله عن بني إسرائيل: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم [المائدة:66]، يغدق عليهم فيوضَ النعم والأرزاق، فتكون مدراراً، ويوسع عليهم، وإذا عصوه فإنه سيعذبهم ويهلكهم، كما قال عن آل فرعون: وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ [الأعراف:130]، كل ذلك يقع للظالمين والمجرمين، ويُمنع القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا إذا منع الناس الزكاة وهذا من أعظم المنكرات.
ورد في بعض الآثار عن بعض السلف أن الجُعلان في جحورها وأن الحشرات أو الهوام تموت بسبب ذنوب بني آدم، والله يقول: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ [الروم:41]، فهذا الذي يقع للناس من خسائر في أموالهم، ومن أمراض لا يعرف الأطباء علاجاً لها، وما يقع لهم من ألوان المضار التي يُمْنون بها في النفوس والأبدان وما أشبه ذلك كله بسبب الذنوب، وانظر إلى الأوجاع الغريبة التي تتفشى وتهدد العالم، كم أنفقت من أموال، وكم كتب عنها، وكم بذلت من جهود، من أين تأتي هذه الأوبئة؟، بسبب الذنوب، والله يقول: وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ [الشورى:30].
فهذا الإنسان الذي يظهر المعصية لا يضر نفسه فقط، بل يضر المجتمع بكامله، فيجب أن يبقى المجتمع نظيفاً نزيهاً قدر الإمكان، وأن يؤخذ على يد الظالم والسفيه، لا يخرق السفينة،
فهؤلاء يقولون: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذِ مَن فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً، وهذا يلغي لغة الجاهلين، إذا أنكر عليه المنكر قال: هذه حرية شخصية، ويقول: فلان فضولي، يتدخل في شئون الناس، وخصوصياتهم وما أشبه ذلك، لا، فالمنكر يجب إنكاره -إذا ظهر- على كل قادر، من أجل أن نلقي التبعة عن كواهلنا، وأن نقوم بحق الله ، وأن نتخلص من ألوان العقوبات الخاصة والعامة، هذا، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.